Grizzly Man (2005) القبح الدفين للطبيعة والشغف






عندما انتهيت من مشاهدة فيلم grizzly man  للمخرج الألماني القدير فيرنر هيرزوج وجدت نفسي عاجزاً عن تقبل تلك الفكرة التي يحاول الفيلم إيصالها أو زرعها كنبتة سامة بذرتها الشك في عمق قلب المشاهد، فكرة أن لا شيء أخطر على الإنسان من إيمانه وشغفه.




بحسب المتعارف عليه في الصناعة هناك خط رفيع ما بين الواقع والخيال تستند عليه السينما، وتتمايل بترنح متأرجحة بين كلا الجانبين حيناً يتلو حين، هناك تزدهر السينما وترتقي، تقترب تارة صوب الواقع وأحياناً تفر سارحة لتخلق من الخيال واقعاً خاصاً بها ولكن في نهاية المطاف يظل الحفاظ على تلك الموازنة ثيمة أساسية لا يمكن الاخلال بها لضمان تحقيق مفهوم "فيلم".
هذا ما يجعلني أرى بأن الأفلام الوثائقية تحمل طابعاً أقسى وأكثر عنفاً عند المقارنة بغيرها من الأصناف، حتى وإن كانت تقلَّهم دموية في المحتوى وربما السبب في ذلك هو خضوع الأفلام التسجيلية للواقع تماماً ومعرفتي كمشاهد بذلك، أنه لا يوجد زر أو تغيير على النص بوسعه إيقاف تلك الأحداث أو محوها، كل ما يتجسد على الشاشة أمامي من أحداث قد حصلت بالفعل ولا مفر منها، كمخرج فيرنر هيرزوج يلعب على وتر تفهم المشاهد لذلك الأمر، وجاهزيته لخوض تجربة صادقة بنسبة كاملة فيبدأ بخلق بعض الأكاذيب غاية التضليل، أكاذيب غايتها الوصول إلى لب الحقيقة فبحسب ما يقول هيرزوج السينما بأي صنف حتى التسجيلية تقوم بشكل كامل على الحقيقة في الحدث وليس الصحة، بمعنى أنه يبحث عن الحقائق حتى وإن لم تكن واقعياً صحيحة، فتراه يتحدث معك، يسألك، يدفعك لتخيل نفسك جزء من الحدث، رفيق لتلك الشخصية بل مكان تلك الشخصية أو كأنه لا يريد منك أن تشاهد بغاية العلم بالحدث بل يريد منك أن تشاهد لتصبح أنت بذاتك جزء من الحدث وأن تصبح أنت على دراية أكبر بالحقيقة، حتى وإن كانت صعبة البلع.


البحث عن الغاية حيث لا بشري يجرؤ



الفيلم يتحدث عن ثيموتي تريدويل ناشط بيئي من جنسية أمريكية ذو شهرة غير هينة اكتسبها كصانع أفلام وثائقية ومحب للحيوانات على وجه الخصوص " الدببة البرية/ الرمادية/ الشمطاء" التي اعتاد أن يعيش بينها ومعها بغاية دراسة طبيعة حياتهم، دراسة الطبيعة من حولهم، ودراسة طبيعته كإنسان. كان الهدف من تجاربه هو استكشاف العلاقة بين الدببة البرية التي بطبيعتها محالة الاستئناس مع البشر، ولتبيين تلك العلاقة قضى ثيموتي 13 صيفاً مع الدببة، يحاكي حياتهم، ينخرط في مجتمعهم، يتحدث معهم ويجتهد بكل شغف ليبين سهولة الانسجام والانخراط في مجتمعهم البري الموحش.

تلك الفكرة التي تبدو لوهلة ضرباً من الجنون، كانت تسيطر على ثيموتي وتتملكه، فقد أنشأ مؤسسة لحماية ورعاية الدببة، وقام بالعديد من الأفلام التسجيلية، الندوات الثقافية والحملات التوعوية حول حياة وعالم وطبيعة الدببة. لم يكن ثيموتي جاهلاً بخطورة تلك الحيوانات بل النقيض تماماً، لطالما ذكر ثيموتي طبيعتها القاسية التي بررها بالغريزة الدفينة المتوارثة والحاجة المُلحة للبقاء، إلا أنه اهتم بإزالة اللوم عن تلك الدببة المفترسة زاعماً بأن في حال توفر بيئة مناسبة لهم للعيش فإن تلك الطبيعة ستتغير وأن الحاجة الملحة هي ما تدفعهم للافتراس، ولطالما أقر بأنه ليس معرضاً للخطر حيث أنه اكتسب من الخبرة والمهارة ما يجعله جزءاً بل فرداً من عالم الدببة، والحق يقال قد اثبت ذلك كثيراً، 12 صيفاً بالتحديد قام ثيموتي بالعيش بين الدببة في شتى الغابات ولم يتعرض حتى لخدش الأمر الذي يجعلك كمشاهد تتخيل أن ثيموتي تمكن فعلاً من اكتساب ثقة تلك الكائنات التي لا تعرف سوى الافتراس، إلى أن حلت طامته في الصيف الثالث عشر، الحقيقة التي صفعنا هيرزوج بها منذ لحظات الفيلم الأول دون سعي خلف التشويق والبناء الحدثي، حيث أن في الصيف الأخير تواجه ثيموتي مع شغفه وتعرض للقتل بوحشية رفقة حبيبته حينها آيمي، في محمية كاتامي بولاية آلاسكا، وكان المعتدي والقاتل هو أحد الدببة البرية.


حكاية عن تحديد المصير

الفيلم لا يجعل من هذا الحدث المروع محوراً لقصته، بل هو يبحث بشكل أعمق في طبيعة ثيموتي ودببته، يتساءل هيرزوج مخاطباً المشاهدين، هل تجاوز ثيموتي الحد ؟ بالنسبة للمخرج والذي لا يخجل من التعبير عن رأيه، لقد فعل ثيموتي ذلك فعلاً، لم يحترم الراحل الحواجز والحدود التي فرضتها الطبيعة والقوانين الكونية، لم يحترم الفروقات التي فُرضت بين الحيوانات المفترسة، الحيوانات المستأنسة والبشر، هناك حواجز بالنسة لهيرزوج لا يصح حتى التفكير في تجاوزها، وأن لا مبرر ولا عزاء ولا رحمة ترجى لذلك الشاب الذي كان مدركاً للعواقب وخاض التجربة على كل حال، كان الفيلم معركة في المدارس الفكرية ما بين شاب ذو روح ثائرة وحرة، والجيل الملتزم المحافظ الحريص المتمثل بهيرزوج. حاول المخرج الألماني التركيز على الشخصيات التي كانت على علاقة مباشرة بثيموتي الإنسان، كحبيبته السابقة وشريكته في المؤسسة، كوالديه الطاعنين في السن، أصدقاءه، الأشخاص الذين اهتموا لأمره وتمنوا أن يقلع عن تهوره وسعيه المستميت لإثبات شيء لا " يُهم " ولا " يمكن إثباته " من وجهة نظرهم. يسأل هيرزوج هل الأحلام حقاً تستحق أن يضحي المرء بحياته في سبيلها ؟ او أن حياة الإنسان ثمينة أكثر من أن يهدرها بتلك السهولة. وتساءل أيضاً هيرزوج عن شعور " ثيموتي " وهو يعاني ألم أن يؤكل حياً بواسطة أحد المخلوقات التي أحبها أكثر من أي شي آخر! هل كان حينها حزيناً؟ مدركاً لموقفه والسخرية القدرية التي وقع بها! أم أنه كان فقط يتألم ويحاول بغريزته البشرية النجاة من مخالب المفترس. 

يعرض لنا الفيلم لقاء مع أحد أهم الشخصيات ألا وهو الطبيب الشرعي الذي يأخذ وقته بكل أريحية ليشرح بعمق حقيقة ما حدث، في مشهد سينمائي بحت يصعب للحظة الاقتناع بأن تلك التفاصيل حقيقية حدثت في هذا العالم، فالطبيب يبدو غاية في الوعي بوجود الكاميرا بل ويخاطبها بشكل مباشر أو كأنه يقدم " مونلوج " ملحمي، عكس الشخصيات الأخرى التي لم يخرج اللقاء معها عن الطريقة التقليدية لتقديم الصورة الوثائقية. وما يزيد الحكاية صعوبة هو أن هيرزوج تمكن من الحيازة على شريط مسجل للحظة مقتل ثيموتي وحبيبته، إلا أنه لم يقم بعرضه في الفيلم لأن ذلك سيكون " تجاوزاً للحدود " أكد هيرزوج على ذلك في محاولة منه لإثبات أنه وعلى خلاف ثيموتي، يعرف تماماً حدوده واكتفى بالاستماع إلى التسجيل برفقة حبيبة ثيموتي السابقة، واتفاقهم بعد الاستماع على التخلص من ذلك الشريط المرعب، الذي بث في قلوبهم الخوف والألم، فحسب تعبيرهم لا يوجد في الشريط أي شيء خاص، أو أي قيمة تُذكر فقط رعب الافتراس المتوقع من هجوم قاسٍ وذلك ليس ما ترجو حبيبته السابقة تذكر ثيموتي به وليس ما ترجو أن يتذكره العالم به، لقد كانت رغبتها أن يتذكر العالم ثيموتي كرجل مرح، محب للطبيعة والحياة، رجل تمسك بشغفه حرفياً حتى أنفاسه الأخيرة، فاكتفوا بالتحسر والحزن على ما آل لثيموتي وإيمي من مصير.
الطبيعة الخلابة التي نحاط بها هي غلاف لما تحويه من قسوة ووحشية في أعماقها، الفيلم هو درس في تقبل حدودنا كبشر، فإن في إدراك القيود التي وُضِعت علينا وأهميتها في ضمان سلامتنا وحياتنا راحة حتى وإن نُظِر إليها كضَرَبٌ من الضعف و الجبن، إلا أن في ذلك الإدراك افتقار للذة والمتعة، وذلك ما يسأله الفيلم تحديداً كمشاهد هل أنت على استعداد للتضحية بحياتك في سبيل تحقيق شغفك وإثبات إيمانك؟ ثيموتي كان مستعداً لذلك وعلى الأرجح حتى وإن لقي مصيراً عنيفاً مؤسف إلا أنه قد يكون وبشكل ما... سعيد.

في أحد اللقاءات، يسأل المذيع الأمريكي ومقدم البرامج الشهير ديفيد ليترمان ثيموتي نفسه إن كان من المحتمل أن نقرأ في يوم من الأيام خبر مقتله بواسطة أحد تلك الدببة، وتحت قهقهة الحضور يجيب ثيموتي بالنفي.




في النهاية رحل ثيموتي تريدويل وحبيبته آيمي هغنارد عن عمر يناهز 43 عاماً وبقت الذكرى وخلد فرنر هرتزوغ الدرس بتحفة فلمية وطفرة في عالم السينما الوثائقية، لن تُنسى أبداً .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

.Damn عن كيندريك لامار وكيف أصبح الهيب الهوب أدباً

عن حاضر يُنعى والسعي لغد أفضل 2016 Hell Or High Water

Arrival 2016 إنصاف لسينما الخيال العلمي