Arrival 2016 إنصاف لسينما الخيال العلمي



دينيس فيلنوف هو واحد من أفضل المخرجين الحاليين في عالم السينما، رجل يهتم بإتقان صنعة كل عمل يلمسه، يحرص تماماً على توصيل أكثر التفاصيل دقة وأقلها تأثيراً وبنفس الوقت يهتم بأن تُعطى الصورة حقها وأن تُعطى الموسيقى حقها وأن يُعطى الطاقم التمثيلي مساحته المحتاجة لتقديم أداءات بارزة، وهو من المخرجين القلائل ذوي السِيَّر الذاتية النظيفة التي لا توجد بها شائبة أو عطب.
ولكن ما الذي يجعل Arrival  هو أقوى أفلامه حبكة وأمثلها صنعة من وجهة نظري ؟   


·       الوجود والحالة البشرية (أو ربما " المخلوقاتية " ؟ ) 

عندما أخترت أسم مدونتي "وجود على ايطارات" قصدت بذلك صناعة سينمائية مشابهة لتلك التي ينتهجها Arrival   فهنا الكاميرا تصور الوجود قاتماً، خافت الأضواءه، غارقاً في محيط التيكنلوجيا يخلو من " التواصل " الفعلي على الصعيد الحسي والتي تُعد من أهم نقاط الفيلم الذي يحكي القصة عبر الكادرات قبل الحوارات والأحداث، مما يجعله مثال حي لذروة الإبداع في مصطلح visual storytelling ...  
يعرض الفيلم علينا ومضات من حياة الشخصية الرئيسية، البروفسور لويس " آيمي أدامز " المتخصصة في اللغات مع طفلتها ويُخيل إلينا حينها أن تلك الومضات هي " تلميحات " تخص ماضي شخصيتنا وهنا يزرع الفيلم في أنفسنا أول عامل ارتباط.
جميعنا يملك من يُخشى فقدانه فعند مرور تلك المشاهد نفترض بأن شخصيتنا هي أم نائحة تحيا في فراغ محض منفصلة عن العالم الذي حولها ولا تُعانق الوجود بأريحية بل نجدها خانعة لروتين حياتها اليومية أو كأنها مُسيرة، مُقادة بينما يضج العالم بالأخبار ويصوب الجميع اهتمامه على أجسام غريبة جاءت إلى الأرض من مصدر مجهول.
نجدها تتجاهل الحدث بكل برود، فنطور معها كمشاهدين علاقة تفهم للحزن الذي تخوضه وتفهم لانفصالها عن العالم الذي تحياه.   
هذه الدقة في إحتضان صنف " الخيال العلمي " وذلك بعكسه على الواقع الذي نعايشه ما تجعل الفيلم تحفة تماماً كحالةBlade runner ، في حين أن الأفلام الهولييودية التي تُدرج في هذه الخانة غالباً لا تهتم بالارتباط مع الوجود البشري، وهذا بالتحديد ما جعلarrival  تحفة خيالية إنسانية، فالحكاية ليست حربية والعنف ليس من جذور الفيلم حتى وإن مهد دينيس لذلك إلا أن ما كان حقاً في نيته هو إبراز إمكانية التعبيرعن فكرة خيالية بإنتاج عمل مسالم، مختلف حول كائنات غير بشرية وجعل ذلك العمل خالي من الكليشيهات الاعتيادية، فارضاً إحتمالية أن تلك الكائنات ربما تعاني من نفس الوجود الذي نعاني منه، وتبحث عن أسباب تماماً كما نفعل نحن، كائنات ربما تشاركنا التيه والوحدة في الكون الشاسع، تشاركنا الكفاح المستديم لإيجاد المعنى، مما يقودنا إلى النقطة الثانية وهي.

·       الغاية

 يحدث التغيير مباغتاً لحياة " لويس " عندما يتم اجبارها على الانخراط في طارئ رأيناها تفر منه منذ بداية الفيلم، وربما من الممكن وصف مهمتها المنشوذة بمعرفة " الغاية " من مجيء هذه الأجسام عن طريق " التواصل ". ومن السخرية أن لويس " عالمة اللغات " تفقد في الحقيقة مهارة التواصل مع محيطها رغم أن مجالها يتطلب ذلك.
نعرف أن تلك الأجسام الغريبة تحوي كائنات أشد غرابة، وأن تلك الكائنات تحاول " التواصل " مع المحيط بلغة غريبة تتشكل بسلسلة من الدوائر والزوائد، وما يُطلب من عالمة اللغات هو توفير دراسة أو التوصل لطريقة تتيح ذلك "التواصل" لمعرفة الغاية من "وجودهم " وربما ما يحاول المؤلف إيصاله هنا هو أن البحث عن تلك الغاية يشابه تماماً بحثنا المستديم عن "غايتنا" من الوجود، فنحن نستنبط تلك الغاية من إشارات ووسائل متعددة كالدين، العلم، أو ربما عناصر الحياة نفسها بما فيها من جمال ورعب، وأن نستكشف تلك المعاني مع شخصية كـ"لويس" زاد الفيلم جمالاً، فلويس قررت أن لا تحتضن حياتها كما ذكرت مسبقاً ولكنها احتضنت مخاوفها، مخاوف الوجود من مواجهة الغد وحتمية الموت فحجزت نفسها في "قوقعة" تماماً كتلك التي جاءت من الفضاء، ولذلك عندما انخرطت في المهمة تجد أن روح الحياة عادت إليها تدريجياً فقد وجدت لنفسها " غاية " وهي البحث عن " غاية " كيان آخر.

·        اللغة

أحد أهم جذور الفيلم هي " اللغة "، من الصعب حقاً تخيل الحياة دون لغة ولا يُعنى بذلك الحياة البشرية بل حياة أي مخلوق حي، فاللغة بجانب أنها وسيلة للتواصل مع المحيط هي أيضاً وسيلة لفهم وتفهم ما يحدث وما حدث، كما أنها وسيلة لفهم المادة والتوصل لطريقة استخدامها، وهي أساس كل تلك المعاني الوجودية من دين وعلم، كما انها تُنظم فوضى الحواس والمشاعر وتصنفها مما يقدم إلى إدراك أشد لأنفسنا.


إلا أن اللغة تقف عاجزة عندما يتعلق الأمر باستكشاف معاني الوجود " غاية أخرى يحاول الفيلم إثباتها" فالكلمات تُصبح محدودة وغير كافية وبالتالي تفشل " اللغة " في استنباط منشأ قلقنا من الوجود ذاته كون اللغة مسيرة عند فهم ما يحدث ولما كان من الصعب فهم الوجود سقطت قدرة اللغة، لكنها تُعد الطريقة الوحيدة لفهم وتفهم الأجسام التي حلت على الأرض ضيفاً ثقيلاً ونلاحظ بأن قبل التوصل لأسلوب الحوار كانت " لويس " ترتجف خوفاً إلا أن بعد نشوء العلاقة اللغوية أو بالأصح الحصول على طريقة للتواصل تولد حس الألفة وزال الخوف، وذلك ما يحدث غالباً بين الأفراد أيضاً.

·       بين الماضي والمستقبل أهناك حقاً حاضر ؟

محاولاً أن لا أحرق أحداث الفيلم، سأتناول هذه النقطة باقتطاب، اهناك حقاً حاضر ؟
ما تفعله الآن هو مستقبل أنشأته أفعالك في الماضي وليس بالضروري ماضِ بعيد، بل ربما ماضِ قريب فكل ثانية مرت هي في الواقع ماضيك، وكل ثانية تمر كانت في الواقع مستقبلك! مما يجعل الوقت أمر نسبي للغاية وتلك المعايير ما هي إلا مسميات، وبذلك يقترح الفيلم أو يلمح في حالة أن الوقت نسبي، في حالة انه حقاً حلقة مفرغة " فلسفة العود الأبدي" فهل مستقبلنا قد يؤثر في ماضينا ؟
بجانب الدراسة التفصيليت لحالة بشرية، لوجود مضني وللبحث عن إجابات يتفوق النص على نفسه بإضافة حبكة مختلفة تماماً عن أي حبكة فلمية مرت علينا، وهي حبكة " الهبة "، ينجح في خداعنا وزراعة الوهم بنا ثم يتركنا حائرين نتسائل! هل حقاَ كبشر نحن مخيرون ؟
إن علمت ما قد يحدث لك في الغد هل سوف تقوم بتغيير ذلك ؟ أم أنك ستسير صوبه عالماً إياه خانعاً له كونه قدرك ؟ ربما بعلم كهذا يتحرر الانسان من قيوده! يتحرر من تلك المخاوف التي تُسيطر عليه ويصبح اكثر تماسكاً كما تصبح " لويس " لاحقاً، حرة "ربما ليس تماماً" ولكن أكثر قوة، ارتباطاً وتفهماً لطبيعة العالم الذي حولها، تعانقه بشدة بعد طول إنفصال متجسداً بمشهد معانقتها لزميلها آيان " جيرمي رنر"، تتنفس الصعداء بعمق فقد أُضئيت عتمة النفق بالنسبة لها.
إلا أنه وبعلم كهذا قد تُدرك أيضاً أن الخيار الأفضل والأصلح هو السير تماماً كما قُدر، ففي الوجود جميعنا مترابطين بشكل ما فكل كيان حي يسير في خط زمني واحد مما يجعل كل فعل مهما كان حجمه ومهما كانت عواقبه يؤثر بشيء ما ويتأثر بعوامل أخرى قد لا تكون حقاً من وجودنا! وقد لا تكون نتاج أفعالنا! كل هذه المعاني الفلسفية كانت في أقصوصة تيد تشيانغ Story of your life  التي أُقتبس منها الفيلم بنص يعطيها أتم حقها، وتجسيد بصري مثالي لا يمكن أن يصبح أفضل مما هو عليه الآن فقد وصل لذروة الابداع.

·       ماذا يريد Arrival  منا ؟

كمشاهد، يُشبعنا arrival  بصرياً، يرتبط بنا حسياً، يُسمعنا لحن ماكس ريتشر on the nature of daylight  بتكرار كي يحرك مشاعرنا ويقلب كياننا جمالياً، إخراج تُرفع له القبعة حقيقة لا تصف الكلمات اهتمام دينيس الواضح بصنعته رغم ضعف الميزانية التي أُتيحت له، تمثيل يستحق الإشادة المطلقة، آيمي آدامز من أفضل ممثلات الجيل وقد كان اختيارها للبطولة موفقاً، ثم كان الفيلم ذو نص مُشبِعٌ مُشَبع يترك بصمته ولا يُنسى بعد نهايته.
جميعنا تائهون في وجود يُخضعنا لخوف دائم من الموت المحتوم إلا أننا نحاول نسيان ذلك،وتُعيننا طبيعتنا البشرية على هذا، ويبقى خوف الحياة مصاحبنا فقط، خوف الفقد والخسارة، خوف العواقب والسقوط، تلك الأجسام التي جاءت هي تماماً مثلنا لم تملك سبباً هي تعرفه إلا أنها ارتبطت وتوسعت، فهمت وتفهمت، أخذت وأعطت، ثم رحلت تماما كما سنرحل نحن مثلهم، تماماً كما سيرحل الطفل الذي قدم بالأمس والشائب الذي قدم منذ أعوام، إنها حلقة دائرية متشعبة تماماً كلغة " الكيانات الغير بشرية" من نقطة بداية نسير لنصل إلى نقطة نهاية، فهل يجب أن نحيا بخوف ونحن نعلم أننا نسير صوب مستقبل ثابت ؟  
على الأغلب لا !

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

.Damn عن كيندريك لامار وكيف أصبح الهيب الهوب أدباً

عن حاضر يُنعى والسعي لغد أفضل 2016 Hell Or High Water

Grizzly Man (2005) القبح الدفين للطبيعة والشغف