عن حاضر يُنعى والسعي لغد أفضل 2016 Hell Or High Water
كانت هذه التحفة من إخراج ديفيد ماكيزين كتابة تايلر شيريدان وبطولة جيف بردجز، كريس باين و بين فورست، هي نخبة عام 2016 بالنسبة لي، بين
الأجواء الغربية، في فراغ الريف البائس يُفتتح الفيلم بعمليتي سطو متتابعتين تُخلق
معهما فوضى شديدة الواقعية تُبشر بالعواقب ، وقد لا يُبدي الفيلم في بدايته الكم
الهائل اللاحق من الدموية والعنف، إلا أنه يُبدع في التمهيد لذلك بالتعمق في
"الشخصيتين الرئيسيتين" الأخوين الذين قاما برسم خطة نهب سلسلة من
البنوك في غرب تاكسيس من أجل إنقاد مزرعة أسرتهم المتوارثة جيلاً عبر الجيل.
هذا الفيلم هو عن
العرق، هو عن الإرث وأهميته للإنسان قبل أن يكون أقصوصة " الصواب
والخطأ" فكل الشخصيات مهما كان حجم دورها تشترك بشيء ما وهو إهتمامها بالإرث وسعيها
المستديم في تمجيده أو ذمه، سواء بالتحسر أو بالسعي لإحياءه، يهتم الفيلم كثيراً
ب"الغاية" من الفعل، ويحاول ملامسة تلك الغاية بشكل يخرجه من تصنع القيم
الأخلاقية وقد نجح الفيلم في ذلك حتى وإن خرج " تعاطفي" بدرجة بسيطة.
إفتتاحية الفيلم
شبيهة إلى حد ما بإفتتاحية فيلم الراحل سيدني لوميت ( before the devil knows you're dead ) وكأنها تحية من ماكيزين إلى الراحل بالإشارة إلى
آخر أفلامه ، يتشابه الفلمين في استحضار منشأ " الذنب "
للمشاهد، كلاهما يبدآن بعمليات سطو تتم من قبل أفراد للمرة الأولى، الخصيم الأول
في كلا الفيلمين كانت إمرأة كبيرة في السن لا تملك حول ولا قوة للصد أو الردع، مع
عملية السطو الثانية يصبح واضحاً تماماً لنا طبيعة الفيلم وأي نوع من الشخصيات هما
الأخوين، فالأول يبدو محنكاً، ذكياً متألماً تنقصه ثقة، جنون، وميول العنف المصاحب للثاني. وبعشر دقائق فقط يكشف الفيلم عن كل أوراقه، يتيح لنا المجال لمعرفة " النطاق " الذي تتم فيه الأحداث، عالم صحراوي قاحل، ثم يبني بعد ذلك قصة متماسكة
مليئة بالتشويق والعنف.
*تأثير الكساد على العامة.
يقابل الأخوان في سير الأحداث محققين أحدهما غربي الأصل، ساخر بروح غجرية، مسن على وشك التقاعد ومفرط في
الكحول، بينما الآخر من أصول " هندية – مكسيكية " وتبدو عليه الرصانة
مقارنة بالأول، يتعرض الأخير لمضايقات مستمرة من زميله غالباً حول أصوله حتى وإن
كانت تلك المضايقات لا تحمل في طياتها حقداً كوننا نعلم لاحقاً أن ذلك العجوز
المتجهم هو في الواقع رهف القلب. قد أثبت المؤلف تايلر شيريدان من قبل براعته في القصص متعددة الأبعاد والتي تسير صوب محور واحد في أول نص له في فيلم Sicario، فبالرغم من أن المحققي يُفترض أن يمثلا جانب
العدل في القصة إلى أن نزعة العرق بهما أيضاً واضحة جلية، فالأول يفتخر بأصوله
الغربية بينما الآخر في قرارته يجد أن تلك البنوك التي خصصت كل أملاك العامة وبالتحديد
أملاك" الأمريكيون الأصليون " تستحق ما يحل الآن عليها من عمليات نهب.
يرمي
الفيلم بين آن وآخر موعظة أخلاقية، في واحد من أكثر المشاهد تأثيراً بالنسبة لي يمر
المحققان برجلين يقوما برعاية المواشي، وبعد حوار مقتطب يتمنى الراعي لو أنه يحترق
كالعشب ويتحول إلى رماد كي يتخلص من بؤسه حسب تعبيره فبينما العالم في القرن
الواحد والعشرين لا يزال هو يرعى المواشي خلفاً لأسرته في إشارة إلى " تأثير
الأصل " و "توريث طبيعة الحياة" أو كأن الزمن لم يتقدم به البتة،
وفي الحقيقة شخصيات الفيلم كلها تبدو وكأنها من زمن مغاير، فهم خارجون من رحم
الغرب الأمريكي ليس تماماً بالصورة الهولييودية التقليدية بل بالصورة الأقرب
للواقعية، مزارعين، فلاحين بسطاء، ففي المشاهد التي تدور في نوادي القمارعلى سبيل المثال تجد
الأخوين بثيابهما الرثة، المغبرة وألوان بشرتهما القمحية، متصببي العرق أو كأنهما
دخلاء على هذا العصر، وتلك هي حقيقتهما بعد أعوام من التهميش والقهر..
* دماء، حمل ثقيل، الحياة ببساطة.
السؤال هنا ما سبب القهر ؟ الإجابة هي الفقر
والجهل، الفيلم يتحدث عن علة الفقر في المجتمع وأثره على الأفراد بشكل خاص أرباب الأسر وماذا قد يفعل الشخص في أسوأ الحالات ليتخلص منه لضمان مستقبل من يخلفه
فتلك غاية الأخ الأكثر ذكاء من العملية، يقول في لحظة مبجلة في الفيلم :
" كنت فقيراً طيلة حياتي، إن الفقر كمرض نتوارثه جيلاً عبر جيل، ولكن ليس لأولادي، ليس بعد الآن"
بينما الأخ الآخر يمثل تماماً الجهل فهو
لا يدرك حقاً قيمة الحياة البشرية كأخيه ولا يقدرها، ولا ينظر للفقر
كـ"مرض" كما ينظر إليه أخيه، ولا يحاول إقتلاع خلفه من جذور أسلافه لأنه
لا يملك أحد يبدي له هذا الاهتمام عدا أخيه، وفي رحم الفوضى لم يشعر حتى بمس من الخوف بل أحتضنها وكأنه خُلق حقاً ليخوضها، وقد وجدت التناقض والاختلاف بين
الشخصيتين في غاية البساطة والجمال وقام بخدمة الفيلم بشكل كبير.
نعلم لاحقاً أن على بعضهم أن يحمل كل ما حدث من سفك للدماء على عواتقهم حتى نهاية حياتهم، فهنا يُسقط الفيلم فكرة الصراع بين الخير والشر، هنا لا وجود لتلك المعاني لأنها وبحسب النص لا نفع لها إذ أصبح في كل خير شيء من الشر، وفي معركة لا محق فيها ينتهي الحال إما بهزيمة، هدنة زائفة، أو ربما كما يعرض الفيلم " ربح لكل الأطراف " ويخسر طرف آخر لا مصلحة له أو دخل في ما يحدث البتة فتلك هي بإختصار " الحياة".
قوة الفيلم هي حقاً في " بساطته " التي جعلت من النص عبقرياً، الحوارات
التي بين الشخصيات بسيطة، الفكرة التي يحاول إيصالها واضحة، لا يتبع طرق ملتوية في
السرد أو التعبير، السير الحدثي سلس وممتع، التصوير ينقل تماماً النطاق بشكل كافي للتعبير عن الفكرة، يقدم الطاقم أداءات تمثيلية في منتهى الروعة
بقيادة الأسطورة جيف بردجيز، والفيلم ككل هوحقاً كما وصفه أحد الأصدقاء أقرب فيلم غربي لNo country for old men، بل هو فيلم غربي عن عملية سطو بروح الأخوين
كوين إلا أنني أشدد على اختلاف الفيلمين وتميزه وأن أي أوجه المقارنة الوحيدة ستكون في " خامة العمل " و" دقة الصنعة"..
تعليقات
إرسال تعليق