High and Low 1963 صراع القيم الأخلاقية في مجتمع ناهض






كروساوا، عراب السينما اليابانية، ذلك الرجل المُحدث، المبدع، الشغوف، الذي ساهم في عولمة سينما اليابان وتوسيع قاعدتها الجماهيرية دون التخلي قط عن اهتمامه بفحوى الثقافة، سواء إهتمامه بتقديم صورة زاهية عن عالم ياباني يحتفي بإرثه أو إهتمامه بالقضية اليابانية الحديثة والحالة البشرية، قد تلقت أفلامه العديد من الانتقادات كونها حسب وصف المتذوقين المحليين "غربية للغاية" في حين يرى الشق المعارض أن أفلامه قد فتحت أعين الغرب على اليابان كحضارة وكأمة ناهضة بينما في الواقع امتلك أكيرا كروساوا حب للسينما وحب لليابان وزاد عليهما شغفاً في التطور، ذلك قد وصل كما وصفه معاصريه إلى مرحلة الهوس إلا أن في الخاتمة بذرة الإبداع تلك قد زرعت أجيال من السينمائيين الذين يكنون لكروساوا بجزيل فضل إيحاءهم والتأثير الايجابي الملازم على صنعتهم.



عند ذكر اسم كروساوا، دائماً ما يتذكر المشاهد أعمالاً ذات ثقل وشهرة واسعة في الأوساط، كفيلمي seven samurai  و Rashomon  اللذين كانا بداية ثورة في هذه الصناعة ككل، في حين أن هناك لأكيرا أعمالاً تُقدر بالذهب ولا تلقى نفس الحفاوة، فكروساوا صاحب التحفة الحربيةran  قد أخرج ما يزيد عن ثلاثين فيلماً يعجز المشاهد عن إيجاد شائبة في أحدها، من تلك الأفلام التي يقول المرء عنها "مهضومة الحق جماهيرياً": The bad sleeps well ، I live in fear،drunken angel ، Scandal وبالطبع هذا الفيلم الذي أعده أحد أعظم التحف السينمائية الكاملة والسابقة لعصرها فيلم high and low فأكيرا لا يعالج فقط هنا المشاكل التي واجهت أفلامه السابقة بل ويتفوق على نفسه في إتمام جميع العناصر كالتشويق، الإثارة، تعليق المشاهد وإرغامه على الارتباط بالأحداث والشخصيات وأخيراً التعبير عن فكرة مهمة بصورة بالغة الإنسانية والتميز، هذا الفيلم الذي تأتي ترجمته الدقيقة كheaven and hell  هو أكثر أفلام أكيرا كروساوا نُضجاً وتفرداً وإثباتاً لموهبته بعيداً عن عالم الساموراي والقصص القتالية.

-        واقعية بحتة ومفيوني في ذروته التمثيلية.

عند الحديث عن أفلام كروساوا علينا أن نُشير أن أهم عامل يميزها هو النص غالباً، فنصوص كروساوا هي ما ترتقي بالفيلم، ومحاولاته المستميتة في تنوع أسلوب السرد تجعل من أفلامه بالغة الاختلاف والرقي. ينقسم الفيلم إلى جزئين لسير حدثي واحد وقد انتهج كروساوا هذا النوع من السرد في فيلمIkiru  أيضاً حيث يحدث في نصف الفيلم تحول في أسلوب السرد وتحول في تركيز الشخصيات ليتحول من تتبع حدث لشخصية رئيسية إلى تتبع ما يحدث لها عن بعد!
يبدأ الفيلم بمشهد واقع يحدث أمامنا دون تقديم مسبق لأي من الشخصيات، نُعرض عليهم أثناء خوضهم لإجتماع يناقشون فيه مصير منتج جديد لشركتهم المتخصصة في تصنيع وتصدير الأحذية، في ذلك الحين نتعرف على شخصية جوندو (مفيوني) قائد القصة وهو رجل ثري في منتصف العمر ذو مزاج حاد، سريع الغضب، ونرى فيه إخلاص للمهنة وشغف للنجاح، حدّته تقود إلى فض الاجتماع ورحيل زملائه على مضض لنكتشف لاحقاً أنه يخطط لعمل انقلاب في الشركة ينتهي بترأسه وإسقاط جميع شركاءه، حماسه وبهجته يدخلان في قلب المشاهد الريب والشك تحديداً بعد رؤية ردود أفعال كلا من زوجته وشريكه اللذان أظهرا توجساً ودهشة!
يدخلنا كروساوا في عمق صناعة هذا الرجل، يشير فيها إلى السطوة الصناعية ليابان ما بعد الحرب فالرجل يتاجر بالملايين عبر الهاتف ولا يُبدي أدنى خوف من الحصيلة كونه يثق بخطته ويؤمن بقضيته، في هذا المحور الجانبي من الفيلم يصبح من الجلي لنا أن الحكاية ستتمحور كلياً عن ارتفاع وسقوط هذا الرجل الطموح قبل أن تأتي المفاجأة ونقطة التحول في النص عبر اتصال هاتفي يُخبر به أحدهم أن ولد جوندو الصغير قد تم اختطافه ولكي يُحرَر على الأب أن يدفع 30 مليون دية، وتتشابك الأحداث بشكل متسارع ليتضح أن الولد الذي خُطف لم يكن في الحقيقة أبن جوندو رجل الأعمال الغني بل إبن سواقه محدود الدخل، قليل الحيلة، فالصبيين كانا يرتديا ملابس متشابهة وهما يلعبان المطاردة كلص ورقيب (إشارة إلى المعركة بين الخير والشر التي يتمحور حولها الفيلم بشكل أكبر) ونجى ابن جوندو! عندما تُكشف تلك الحقيقة يبدي الخاطف قلة إهتمام أو كأن شيئاً لم يكن ويواصل تعامله أو كأن جوندو هو المستضعف، تلك كانت حاجة في نفس كروساوا أن يعبر عنها من رواية إد مبين (هل بوسع خاطف طلب فدية من طرف ثالثة لا علاقة له بالمخطوف ؟ ) يصبح ضمير جوندو على المحك فقد قامر بكل أمواله في سبيل الانقلاب الصناعي وخسارة فادحة كهذه قد تتسبب في سقوطه كلياً إلا أن إنسانيته تمنعه عن التخلي على الصبي الصغير دون تفكير وإعتبار!
قراره حينها يصبح محط السؤال، فعندما اختال أن ولده في المأزق لم يتردد البتة في أخد تفاصيل الأموال بل ويعترف لاحقاً أنه كان لينقد صبيه لا محالة، حتى وإن كان يخاطر بالافلاس والسقوط، إلا أن وبعد أن انقلب الوضع أصبحت المسألة إنسانية وليست شخصية، فهل سيدفع الأموال للطفل ؟ أم سيترك الأمر للشرطة ؟ وفي حين أن الذنب على عاتقه كون الطفل خُطف وقد عُني به أن يكون ابنه فالانتقام والحقد موجه صوبه فهل سيتمكن جوندو من تجاهل تلك الحقائق واتمام خطة انقلابه ؟



ثم ينتقل الفيلم في قسمه الثاني إلى الأحداث البوليسية وكيف سيتم القبض على الخاطف! تتصاعد في القسم الثاني الإثارة معتمدة على البناء النصي الذي تم في القسم الأول، وهذا إن أثبت شيئاً فهو أن كروساوا كصانع فلمي يدرك تماماً كيف يجر المشاهد ويسوغ الأحداث ما بين بناء يجعله مستثمراً كلياً في ما يدور وإستهلاك ذلك البناء في تكوين أحداث مُشبعة.
توشيرو ميفوني معشوق كروساوا الأول والأبدي يقدم دور أقل ما يمكن وصفه بالمذهل، دوراً يجسده بحرفية ودهاء، يتحكم بعواطفه ويقلل من المبالغة الأدائية التي اعتدناها منه، لقد رأيته ناضجاً في الدور، متماسكاً، وربما في قمته، وقد كان اختيار كروساوا الأكيد دون تفكير ليترأس تحفته هذه عن الحق والجور، قطعة كروساوا الأكثر إنسانية ومن المحزن أن أذكر أن هذا الفيلم كان من آخر تعاونات الثنائي الأسطوري فبعده قدم كروساوا فيلم Red Beard  الذي استقل بعده مفيوني وتمرد من سطوة أكيرا في واحدة من أكثر الحادثات السينمائية ذكراً، وأكثر الانفصالات المؤسفة.

-        يابان ما بعد الحرب، وعبث الأنفس.

يُعبر كروساوا في هذا الفيلم عن مقته الشديد للرأسمألية، هو لا يرى أي إيجابية فيها ولم يكن في يوم ما خجولاً عن التعبير على ذلك! كروساوا يرى أن السطوة الصناعية لرجال الأعمال قد لعبت بأنفس العامة، وحطمت من طموح البسطاء بحيث أن النهضة لا تتم إلا بالتسلق ولا تسلق يتم دون تقديم المصلحة الشخصية والإضرار بمصالح الآخرين ومن وجهة نظر أكيرا تلك لعنة أصابت اليابان الحديث جالبة الضرر والشرخ في العقيدة الإنسانية منتجة في النهاية جيل معطوب الروح!
علي أن أشير بالذكر أن تناول يابان ما بعد الحرب في الأدب والفن كان متخماً بأعمال رزينة، وأن جميعها يشترك في عامل التخبط الذي أصاب المجتمع الياباني ككيان " مضطرب "! فهم يرون أن التأثير الغربي قد عمّ بفائدة وثورة صناعية جبارة على الدولة ولكن بنفس الوقت يملكون حنين وميل إلى بساطة المجتمع السابق!مجتمع ملك لهم مبني على عادات وتقاليد مبجلة، فقد ترعرعوا على ولاء لم يجدوا له مكان في هذا العصر. هذا النوع من التخبط قد يخلق بالفعل شخصيات حائرة، ضعف إيمان الجميع بعد الحرب وصعود أناس على أنقاض أناس وغيرها من مظاهر الظلم في المجتمع الرأسمألي "المستغرب" كانت الركيزة التي قام عليها الفيلم وقد وصل ذلك إلى ذروته في شخصية الفيلم المحائدة، شخصية الخاطف تاكيوشي.

-        معركة القيم

كمشاهد تتعاطف بشدة مع شخصية جوندو، بل وفي مرحلة ما تنصبه كبطل! تماماً كعامة الشعب بعد تضحيته المنشوذة وتماماً كالشرطة الذين تتغير آراءهم وطرق تعاملهم مع جوندو تدريجياً مع مرور أحداث الفيلم في إشارة إلى إنحياز السلطة لمُلاك رأس المال في يابان ما بعد الحرب ( لم تكن الإشارة السياسية الوحيدة في الفيلم)، ربما السبب في ذلك أن اتخاده للموقف الإنساني في لحظة ما غيبنا عن حقيقة هذا الرجل، أنه في الأصل رجل غني، رأسمالي قذر ( حسب مفهوم أكيرا) تسلق على طموح الآخرين، وما زال مستمراً في التسلق لغاية لا تنتهي، فرغم غناءه الفادح لا يزال يريد المزيد، عند النظر من نافذة منزل جوندو نجد مصانع تبدو دخيلة على المجتمع وبنفس الوقت بيوتاً عشوائية صغيرة تكاد لا تؤثر بجوندو البتة أو حتى بنا كمشاهدين فنحن نصب جل تركيزنا حول الأحداث العابرة، في حين أن عند معرفتنا لشخصية تاكيوشي المسعف الفقير الذي عاش طيلة عمره في المنخفضات يراقب منزل جوندو عن بعد. نتأثر به وتتغير نظرتنا عن كلاهما!
ذلك النوع من المعضلة الأخلاقية يتقنها كروساوا أتم الإتقان في هذا الفيلم، فنحن أمام صنفين أحدهم اتخذ الفعل الصواب وجانب الحق متأخراً بعد أن عاش زاهياً بثمرة بذرتها فاسدة، في حين أن الآخر اتخذ الفعل الخاطئ متأخراً ومتأثراً بأعوام من الظلم أمضاها متوارياً في رحم الأمل، نجد أن الحقد الدفين من تاكيوشي سببه الروح المعطوبة التي ذكرتها سابقاً، فهو لا يتمكن من حب جوندو حتى وبعد أن أثبت جوندو إنسانيته! وبنفس الوقت يعجز جوندو عن تفهم غضب تاكيوشي وكراهيته فمن وجهة نظره ما هو إلا رجل أعمال، هذا المصطلح بالنسبة له يعني المتاجرة بالأموال دون النظر إلى مصدرها وتوخي الحذر الدائم فمستنقع الرأسمالية عميق وعلى الجميع أن يتسخ، يتلخص ذلك في أحد أهم مشاهد الفيلم، أكثرها تأثيراً وكمالاً، ألا وهو مشهد الختام الأسطوري الذي لا ينسى!

-        دهاء الصورة، ودعوى ليابان معتدل.

قليلة هي الأفلام التي تحبس أنفاسك حرفياً وتبقيك على ترقب لنقطة الإشتعال، كهذا الفيلم تحديداً. إلا أن النص لم يكن فقط نقطة الإبداع القصوى في الفيلم فإهتمام أكيرا بالصورة كان واضحاً للغاية، قد استخدم أكيرا في أحد المشاهد لقطة تحتوي على لون دخان وردي يظهر من وسط الرمادي الذي يغشى الفيلم وتلك التقنية ذاتها التي أوحت لسبيلدبيرج مشهد فتاة الجاكيت الأحمر في فيلم " قائمة شيندلر"! الصورة تحكي الكثير، الإطارات تتحدث عن مجتمع منفصل منقسم خاضع لطبقية الرأسمألية ما بين شوارع اليابان السفلي المليئة بالقذارة والتيه البشري واليابان العلوي حيث الراحة والحياة الهنيئة! يقول تاكيوشي الخاطف في لحظة زهوه وأقوى مشاهد الفيلم.

-        كل ما أعلمه أن غرفتي كانت في غاية البرودة أثناء الشتاء، وفي غاية الحر أثناء الصيف، من تلك الغرفة الضيقة بدا لي منزلك كالجنة.
في مشهد الختام يحاول كروساوا جل جهده بأن يُظهر كلا الشخصتين في الإيطار رغم جلوسهما في وضعية متقابلة، كانت تلك المحاولة معبرة عن رغبة كروساوا في قول أن هذين الوجهين ما همها إلا تجسيد لمجتمع واحد رخو، مهترئ يعجز أفراده عن فهم وتفهم بعضهم البعض.

يناشد كروساوا المجتمع بالتكاثف دون تصنع القيم الأخلاقية، لا يقترح التعديلات بل يشير إلى مواطئ الضعف، كنقده الصارم للقانون الياباني في عقوبة الخاطف، يقوم أكيرا بعرض حالة ممكنة، بطريقة مبتكرة، بإستخدام صورة مكلفة وتحكم متماسك بالنطاق والممثلين، كورساوا لا يميل للحضارة الغربية كما يُتهم بل هو يميل إلى الإبتكار السردي والسينمائي ككل، يميل إلى الخروج عن الصندوق، مما يجعل أفلامه أقرب للهولييودية من تلك التي يقوم  أوزو وكوبياشي وتيشيجهارا بُصنعها، تنميق الصورة وإستخدام الأغاني الأجنبية ليست بشيء إعتيادي في الأفلام اليابانية آنذاك، وربما لهذا خُلق وهم تمرد كروساوا.
ينتهي الفيلم والمشاهد في حالة ذهنية متخبطة، مندهش وبنفس الوقت في ذورة إستمتاعه.
تُرفع القبعة لكروساوا جزاء حبه للسينما وليعش أسمه خالداً إلى أن ينتهي عمر الصناعة.
   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

.Damn عن كيندريك لامار وكيف أصبح الهيب الهوب أدباً

عن حاضر يُنعى والسعي لغد أفضل 2016 Hell Or High Water

Grizzly Man (2005) القبح الدفين للطبيعة والشغف