Do the right thing على نار ليست هادئة





السينما الأمريكية وذوي البشرة السوداء، علاقة شائكة منذ بدايات هولييود بل وترجع إلى فترة أبعد من ذلك، إن السينما بمفهومها ما هي إلا إمتداد لصناعتي الفن والترفيه، وعبر السنوات ارتبط ذوي البشرة غير البيضاء في صناعات ترفيهية متعددة غالباً ما تخضعهم للمذلة والتحقير الانساني، ولكن الوضع تغير بعد ذلك، تغير ببطء وبالتدريج، كفاح ذوي البشرة السوداء ونضالهم أصبح الآن ثيمة إعتيادية في السينما، إلا أن ( حتى وإن أختلف الكثير ) القضية تظل أكبر من أن تكتفي بعشرات الأفلام، فعمق الألم أكبر من بضعة الأعمال التعاطفية تلك التي تهدف فقط إلى إذراف الدموع من المشاهد وتوليد حس الأسى والرحمة كما أن التعبير عن قضية كهاته يجب أن يُقاس بمعايير معينة وخاصة، ، فما حدث من دثر للثقافة وتوارث للفكر العنصري لا يزال يؤثر حتى اليوم، مهما حاولت الصناعة على سبيل التخصيص دحض ذلك ومهما حاول المجتمع الغربي بشمولية أيضاً إثبات أن كل ما حدث هو ماضي وأن العنصرية الآن أصبحت فقط مثال للقسوة البشرية ومرحلة مظلمة لا غير.
عندما تم تحويل رواية " اللون الأرجواني" للمؤلفة سوداء البشرة " أليس والكر" إلى عمل سينمائي ضخم نال إحدى عشر ترشيحاً للاوسكار من إخراج قديس هولييود " ستيفن سبيلدبيرج" العديد من ذوي البشرة السوداء وجدوه فيلماً يتاجر بآلامهم لا غير، في حين وقف العديد من النقاد البيض تجليلاً وإحتراماً لعمل مؤثر وإنساني على حد وصفهم إلا أن العمل افتقر لعامل " الارتباط بالالم" ورواية مهمة كتلك كان من الخطأ حقاً إسنادها إلى مخرج " استعطافي " كسبيلدبيرج فأثار ذلك سخط الكثير من الأوساط السينمائية وتحديداً قصير القامة، طليق اللسان، المخرج الصاعد حينها سبايك لي.



مخرج مستقل يؤلف ويخرج ويمثل في أفلام متواضعة الميزانية، يبدو عليه التأثر بوودي آلين في السرد القصصي وتداخل الشخصيات، وتخلو أفلامه من عنصر it الذي يجعلها بارزة إلا أن نجمه برق بسبب آراءه المثيرة للجدل، ثم في عام 1989 يرى فيلم Do the right thing النور من إخراجه، تأليفه وبطولته أيضاً ليفاجئ الجميع بموهبته معالجاً قضايا الأقلة بشكل مختلف نوعاً ما ومستحدث، ذلك الفيلم الذي صنفه الراحل روجر إيبرت بأحد أعظم ما شاهدته عيناه هو بالفعل تحفة محكمة الصنع ترتقي على ميزانيتها وهفواتها، تحتضن قضيتها بعمق وتفتح عصراً جديداً لسينما ذوي البشرة السوداء، ولكن كيف حدث هذا ؟


·       كل شيء حول الحرارة



فيلم do the right thing  قبل أن يكون عملاً يتحدث عن قضايا شائكة ويناقشها هو في الحقيقة فيلم عن المجتمع، يقدم سبايك صورة مصغرة بالغة الواقعية عن عالم ذوي البشرة السوداء في أمريكا، تدار الأحداث في حارة صغيرة من حواري بروكلين حيث كل فرد يعرف الآخر وكل فرد يحاول بقدر المستطاع أن يجعل الأمور " تسير " حتى وإن لم تكن تماماً على ما يرام، فنجد أن الشرطة التتي تتألف من رجال بيض بشكل ما يدركون طبيعة هذا المكان وهؤلاء الأشخاص فتجدهم يحاولون إخفاء عنصريتهم بجهد كبير للغاية في حين أن كل شيء في هذه الحارة يثير إشمئزازهم ويلعب بأتراس عقولهم وفي حين أن سكان المجتمع يعلمون تماماً ذلك الاشمئزاز ويترقبون بفارغ الصبر مرحلة "الاصطدام" نجد أن كل الشخصيات تتبادل نظرات تمتلئ بالشك والتخوين، حرب باردة أو بالأصح حرب في مرحلة الغلي، يُجهز سبايك لـي الأحداث بهدوء ولكن على درجة حرارة مرتفعة، فبينما تُعرض علينا خصائص المجتمع نجد أن الحرارة تشوي الجميع وتقودهم صوب جنون محتم، هذا الحي تماماً كبركان يتجهز للثوران ويمثل العالم الذي يحويه.





بعد افتتاحية الفيلم الكلاسيكية والتي نجد فيها الممثلة روسي بيريز ترقص على أنغام أغنية fight the power ، تنشأ لنا صورة المجتمع مصاحبة لصوت سامويل إل جاكسون مذيع الراديو الذي ينوه بدرجة حرارة الجو، ثم يتم تقديم الشخصيات واحدة تلو الأخرى وأهمهم سال وأبناءه ذوي الأصول الإيطالية الذين يمتلكون مطعم البيتزا الوحيد في الحي لنكتشف لاحقاً أن صاحب المطعم سال كان في موقعه لما يزيد عن عشرين عاماً ورغم سخط أبنه الأكبر تحديداً تجاه طبيعة المجتمع يحافظ سال على إرثه الشخصي ويهتم بالمكان بتقديس، موكي يؤدي دوره سبايك لي نفسه وهو موصل البيتزا الذي يعمل لدى سال، راديو رحيم وهو شاب إنطوائي تبدو عليه ملامح التعايش مع الصدمة واضحة للغاية ويلازمه إنفصال كلي عن الواقع يحمل مسجله ويجعل أغاني الهيب هوب تشتغل عليه محاولاً الحفاظ على هوية الحي كما يقول، شخصية العمدة وهو رجل عجوز سكير يجول الشوارع باحثاً عن أي عمل لينال أموال حصته اليومية من الكحول وأخيراً شخصية بجنج آوت وهو حقوقي عاطل عن العمل يعجز عن التحكم بأفكاره ودائماً ما يشعر بالنقص، وجب التنويه أن هناك العديد من الشخصيات التي لم تُوضع في الفيلم عبثاً، بل لكل شخصية مهما كان حجم ظهورها مغزى يعبر عن فئة معينة من المجتمع الأكبر الذي هو بشكل ما ( الولايات المتحدة ككل) وكل شخصية ترتبط بشيء واحد، جميعهم يشعرون بالحر.


·       الكاميرا هي البطل الرئيسي والنص يحمي الفيلم من التهاوي

في وسط كل هذه الشخصيات، تبرز الكاميرا، التعديل في غاية الحنكة، الانتقال في المشاهد يجبرك حقاً على الارتباط بالأحداث ولا يعطيك وقتاً للملل أو التفكير في ما حدث بل يحجزك في حلقة متتابعة متسارعة، كل الأحداث تدور في يوم واحد فقط يشار إليه بأكثر الأيام سخونة، أستخدم سبايك لي قطعات تكاد لا تكون ملحوظة في التنقل بين الكادرات، كما أنه انتهج لنفسه أسلوب يعبر عن حالة الشخصية بواسطة الكاميرا، فعندما أراد أن يُظهر هيمنة شخصية ما قام بتصويرها من الأسفل، وعندما أراد إبراز ضعف شخصية ما قام بتقريب الكاميرا على وجهها وتغطية الايطار كامل بها، وعند فضحه لشخصية وإسقاط قناعها قام بتصويرها من الأعلى.
يريد أن يقول سبايك أن رغم إنتساب المجتمع لذوي البشرة السوداء لا تزال هيمنة البيض فيه قائمة، ورغم أن الغلبة لهم فلا يزالون قليلي الحيلة، ويعبر عن ذلك بدلالة أن كل عمل ناجح في المجتمع وكل مشروع مُنشأ هو في الواقع لشخص أبيض بينما يتسكع أبناء الحي بحثاً عن لقمة عيش في فراغ محض، يفعل ذلك سبايك بنص في غاية الجمال وأتجرأ بأن أقول واحد من أعظم النصوص الذي يُعبر عن العديد والعديد من القيم بحوارات خفيفة سلسلة.

·       سبايك لي يرفع الوسطى في وجه الباحثين عن السلام!



نأتي إلى الجانب الأكثر أهمية والأكثر تميزاً في الفيلم، هل سيكون هناك سلام بين العرقين ؟ ذلك السلام الذي يناشده صناع هولييود؟ الذي تدعيه الأحزاب السياسية؟ الذي يتغنى به الجميع ؟ إن كان مخرج هذا الفيلم شخص غير سبايك لي لأنتهى الحال به بكلا العرقين متشابتي الأيدي، يغنون سوياً We are the world  ولكن سبايك لي ليس من هذا النوع.
تتصاعد الأحداث مع نهاية اليوم الطويل، يريد سبايك لي أن يبرز أن سيادة ذوي البشرة البيضاء لا تعني بالضرورة عنف وكره مصوب نحو خلافهم بل ربما تتجسد أحياناً في مظاهر تخلو من الكراهية، قد تكون أيضاً في تزييف الحب والرحمة، كالشعور بالشفقة الذي يجسده سال تجاه المأمور أو الشعور بأحقية السطوة الذي يوجهه بينو الأبن الأكبر صوب المجتمع الذي لا يلبث إلا ويعبر عن كم يمقته! وبالرغم من أن تلك المظاهر لا تؤذي إلا أنها في الواقع وجه آخر للعنصرية، بل ربما وجه أكثر قبحاً فرياء الحب ذاك إذا أزيل قناعه بارزاً القبح يقود حينها إلى عواقب وخيمة.
 يضيف سبايك لي بعض العلاقات الرومانسية واهماً كل المشاهدين بأن أحداث الفيلم التي تشتعل لن تنفجر بل ستخمد في النهاية وأن هذا الفيلم لا يزال خاضعاً لأجندة هولييود، ولكن يحدث وأن تنفجر، يرفع سبايك لي شارة الكره صارخاً! ففي غالب الأحيان لا يكون الحب هو الحل المثالي ولا يكون السلام هو الخيار الأذكى، محاولاً أن لا أحرق الأحداث سأتحدث عن ذلك من نقطة واحدة:

-       أفعل الصواب يا موكي...... دائماً.



أن تحيا يوماً تلو يوم في مجتمع يوهمك الحرية ويجرعك الذل تجريعاً، أن يصبح شغلك الشاغل في اليوم هو أن تصل إلى نهايته، أن تؤمن لقمة عيشك أن تصرع الفراغ وتصنع غاية، شخصية موكي هي مدخلنا لهذا العالم، عالم من السعي المستديم، موكي شخصية سلبية باردة لا تهتم بلب القضايا ليس عن جهل بل عن عدم اكتراث خلقه السعي خلف ماديات، بل ونرى أن موكي لا يهتم بقضايا شخصية كذلك فلا شيء يحركه إن موكي شخصية "كاظمة" يمتص ما يحدث حوله ويتعامل مع الأمور ببلاهة وسذاجة ، هو يحاول أن يرضي الجميع ليس لأنه شخص مثالي مُحِب بل لكي يبقى على قيد الحياة، وشخصية كتلك ربما تعبر عن حاشية من البشر فربما الغالبية العظمى من الناس تشاركه هذا الأسلوب في العيش..



ما يحدث مع موكي هو أن سبايك لي يخرج الأحداث ويقودها بكونه جزء منها، وبالتالي نحصل على محرك من خلف الكاميرا ومن أمامها، وربما هذه من الحالات الناجحة حيث يترأس المخرج طاقمه التمثيلي كالتي ينتهجها وودي آلان في أغلب أفلامه، في حالة موكي هو ليس " بطل " الفيلم بل هو لنقل الشرارة التي تندلع ونشاهد نحن مراحل إشتعالها، هو الكتم وما يقوده الكبت من انفجار، ما يعبر عنه موكي في فيلم يتحدث عن الفعل الصواب هو كيف لهذه المعاني أن تكون متغيرة، عندما نتحدث عن الصواب والخطأ أي معايير نتبع ؟ دينيوية ؟ دينية ؟ مجتمعية فُرضت أم سياسية ؟ ما الذي يجعل فعل ما يُصف بالصواب وما يجعل فعل آخر يصف بالخطأ ؟ عند الحديث عن هذا يُخبر راديو رحيم شخصية كتومة أخرى بلسان حال سبايك لي ان كلا من الصواب والخطأ متداخلين ومتصارعين كالحب والكره " في إشارة إلى فيلم ليلة الصياد" ، ففي حين يصبح الخطأ بحد ذاته صواب، ويصبح الصواب معبراً إلى خطأ بل ربما وبشكل أوضح يصبح من الخطأ فعل الصواب فعندما ينصح العمدة موكي في بداية الفيلم بأن يقوم بالفعل الصواب، تقود الأحداث موكي إلى لحظة ثوران يتحتم فيها إتخاد فعل، فموكي ليس رجل أفعال بل هو رجل الظل الذي لا ينخرط في ما يحدث كما أسلفت فهو يحاول أن يغض النظر عن كل القضايا والأحداث للمصلحة الخاصة وراحة البال مستسلماً للحرارة، فحين قيام موكي بالفعل يسقط التصنيف فليس من الضروري قول إن كان قد قام بالصواب أو الخطأ بل ما قام موكي به هو فعل، يُرى كصواب وقد يُرى كخطأ، يقول سبايك لي في لقاء أن وظيفته كصانع أفلام هي طرح القضايا، تقديم المشاكل كي تبدأ بعدها النقاشات، وهذا تماماً ما يقوم به، يختتم الفيلم تاركاً المشاهد ليجيب " هل أنت في صف موكي ؟ "، " هل موكي قام بالفعل الصواب ؟" وتمر الأعوام وهذا السؤال بحد ذاته يُفصل بين العرقين فكلا الجانبين يعجزان عن تفهم ما حصل مما يقودنا إلى النقطة الأخيرة.




·       دعوى للتصالح العرقي؟ " فلتذهبوا للجحيم"

في حفل الأوسكار لعام 2016 قام مقدمه كريس روك بطرح سؤالاً ساخراً " هل هولييود عنصرية ؟ " ثم وبعد تهكم أشعل ضحكات من في القاعة أردف قائلاً : "  اللعنة أنت محق! هولييود بالفعل عنصرية، ولكنها ليست بتلك العنصرية التي اعتدتها ( عند سماع الكلمة ) بل هي عنصرية تعادل تلك المستنبطة من النوادي الخاصة بالنساء فقط".
الصناعة الفلمية تنظر لذوي البشرة السوداء كحالة فلمية يتم تجسديها، وأن على هولييود إعطاء كل ذو بشرة غير بيضاء حقه من النعي كإعتذار اوسبيل مراضاة وذلك بحد ذاته جزء من حلقة العنصرية، كما أن الوجه الثاني لعنصرية هولييود هو عنصرية الأحقية، عندما تنظر هولييود للموهبة أو لمعايير الموهبة نجد أن لها نادي خاص من النخبة التمثيلية التي غالباً ما تكون من ذوي البشرة البيضاء وفي محاولة لإنصاف ذوي البشرة الأخرى تجد العمل مشبعاً بملونين، صديق مقرب أسود، حبيبة سابقة آسيوية ، جار روسي أو صاحب بقالة شرقي على سبيل المثال. تملق واضح وصريح من أسياد الصناعة كمن يلاعب أطفالاً ضيقيّ الأفق، في حين أن هناك مواهب تستحق أن تُصنع أفلاماً تأخذها في الحسبان، وربما بعد هذا الفيلم do the right thing  أصبح البيض متفهمين لطبيعة المجتمع الذي تحياه الأقليات، ولكن يثبت الفيلم أيضاً أن فهم القضية وفهم عمق الألم لا يزال مسعى ربما من الصعب تحقيقه، فالفيلم بحد ذاته جاء ليثبت الانقسام، جاء الفيلم ليبرز الكسر الموجود لا ليجبره فأنقسم الأشخاص من داعم، متفهم لقرار شخصية موكي ومعارض لم تقنعه الدوافع، يقول سبايك لي في أحد اللقاءات مشيراً إلى أحد أهم مشاهد الفيلم:
" لم يسألني قط شخص أسود عن طبيعة ذلك المشهد، كل الأسئلة التي جاءتني حوله كانت من أشخاص ذوي بشرة بيضاء"
الشرخ موجود، شرخ الثقافة، وقد يكون الشرخ أزلي لا يمكن إصلاحه، ومن المحتمل أن تَخلق الفوضى حالة من اللأطمأنينة التي قد تدوم طويلاً، وقد يثور البركان مراراً وتكراراً بين كل آن وحين، ويحل الغضب على الجميع وتتحول تلك الشخصيات الكاتمة المكبوتة إلى وحوش كاسرة إلا أن في اليوم التالي ستشرق الشمس مجدداً، ستزداد الحرارة أكثر، سيبدأ سعي جديد وتستمر الحياة كما هي، بذات الإنقسام قائدة إلى ثوران آخر، دافنة ما حدث بالأمس.
أو كأن شيء لم يكن.




كتب: محمد سميح سعيد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

.Damn عن كيندريك لامار وكيف أصبح الهيب الهوب أدباً

عن حاضر يُنعى والسعي لغد أفضل 2016 Hell Or High Water

Grizzly Man (2005) القبح الدفين للطبيعة والشغف